فصل: ذكر خروج مطرف بن المغيرة بن شعبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مهلك شبيب:

وفي هذه السنة هلك شبيب.
وكان سبب ذلك أن الحجاج أنفق في أصحاب سفيان بن الأبرد مالاً عظيماً بعد أن عاد شبيب عن محاربتهم وقصد كرمان بشهرين، وأمر سفيان وأصحابه بقصد شبيب، فسار نحوه، وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب زوج ابنته، وهو عامله على البصرة، يأمره أن يرسل أربعة آلاف فارس من أهل البصرة إلى سفيان، فسيرهم مع زياد بن عمرو العتكي، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب، وكان شبيب قد أقام بكرمان، فاستراح هو وأصحابه ثم أقبل راجعاً فالتقى مع سفيان بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب الجسر إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وجعل مهاصر بن سيف على الخيل. واقبل شبيب في ثلاثة كراديس فاقتتلوا أشد قتال، ورجع شبيب إلى المكان الذي كان فيه، ثم حمل عليهم هو وأصحابه أكثر من ثلاثين حملة، ولا يزول أهل الشام، وقال لهم سفيان: لا تتفرقوا وليزحف إليهم الرجال زحفاً.
فما زالوا بضاربونهم ويطاعنونهم حنى اضطروهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو مائة فقاتلوهم حتى المساء وأوقعوا بأهل الشام من الضرب والطعن ما لم يروا مثله.
فلما رأى سفيان عجزه عنهم وخاف أن ينصروا عليه أمر الرماة أن يرموهم، وذلك عند المساء، وكانوا ناحية، فتقدموا ورموا شبيباً ساعة، فحمل هو وأصحابه على الرماة فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم أعطف على سفيان ومن معه فقاتلهم حتى اختلط الظلام، ثم انصرف، فقال سفيان لأصحابه: لا تتبعوهم.
فلما انتهى شبيب إلى الجسر قال لأصحابه: اعبروا وإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله. فعبروا أمامه وتخلف في آخرهم، وجاء ليعبر وهو على حصان، وكانت بين يديه فرس أنثى، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الحجر تحته ونزل حافر فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء، فلما سقط قال: {ذلك تقدير العزيز العليم} الانعام: 96،وغرق.
وقيل في قتله غير ذلك، وهو أنه كان مع جماعة من عشيرته ولم تكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالاً، فكان قد أوجع قلوبهم، وكان منهم رجل اسمه مقاتل من بني تيم بن شيبان، فلما قتل شبيب من بني تيم أغار هو على بني مرة بن همام رهط شبيب فقتل منهم، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهمبغير أميري؟ فال: له: قتلت كفار قومي فقتلت كفار قومك، ومن ديننا قتل من كان على غير رأينا، وما أصبت من رهطي أكثر مما أصبت من رهطك، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد على قتل الكافرين. قال: لا أجد.
وكان معه أيضاً رجال كثير قد قتل من عشائرهم، فلما تخلف في آخر الناس قال بعضهم لبعض: هل لكم أن تقطع به الجسر فندرك ثأرنا؟ فقطعوا الجسر، فمالت به السفن، فنفر به الفرس فوقع في الماء فغرق. والأول أصح وأشهر.
وكان أهل الشام يريدون الانصراف، فاتاهم صاحب الجسر فقال لسفيان: إن رجلاً منهم وقع في الماء، فنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبر أصحابه، وأقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث إلى العسكر وإذا ليس فيه أحد وإذا هو أكثر العساكر خيراً، ثم استخرجوا شبيباً فشقوا جوفه وأخرجوا قلبه، وكان صلباً كأنه صخرة، فكان يضرب به الصخرة فيشبب عنها قامة الإنسان.
قيل: وكان شبيب ينعى إلى أمه، فيقال: قتل، فلا تقبل ذلك، فلما قيل لها غرق صدقت ذلك وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء. وكانت أمه جارية رومية قد استراها أبوه فأولدها شبيباً منه سنة خمس وعشرين يوم النحر، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قلبي شهاب نار فذهب ساطعاً في السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينما هو كذلك إذ وقع في ماء كثير فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء، وقد أولت ذلك أن ولدي يكون صاحب دماء، وأن أمره سيعلو فيعظم سريعاً. وكان أبوه يختلف به إلى اللصف أرض قومه، وهو من بني شيبان.

.ذكر خروج مطرف بن المغيرة بن شعبة:

قيل: إن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء أشرافاً بأنفسهم مع شرف أبيهم ومنزلتهم من قومهم، فلما قدم الحجاج ورآهم علم أنهم رجال قومهم، فاستعمل عروة على الكوفة، ومطرفاً على المدائن، وحمزة على همدان، وكانوا في أعمالهم أحسن الناس سيرةً، وأشدهم على المريب، وكان مطرف على المدائن عند خروج شبيب وقربه منها، كما سبق، فكتب إلى الحجاج يستمده، فأمده بسبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وغيره، وأقبل شبيب حتى نزل بهرسير، وكان مطرف بالمدينة العتيقة، وهي التي فيها إيوان كسرى، فقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب يطلبه إليه أن يرسل بعض أصحابه لينظر فيما يدعون، فبعث إليه عدةً منهم، فسألهم مطرف عما يدعون إليه، فقالوا: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن الذي نقمنا من قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية.
فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، وما نقمتم إلا جوراً ظاهراً، أنا لكم متابع فبايعوني على ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم. فقالوا: اذكره فإن يكن حقاً نجبك إليه. قال: أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة على إحداثهم وندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين يؤمرون من يرتضون على مثل هذه الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضى من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم. فقالوا: هذا مالا نجيبك إليه، وقاموا من عنده وترددوا بينهم أربعة أيام، فلم تجتمع كلمتهم، فساروا من عنده. وأحضر مطرف نصحاءه وثقاته فذكر لهم ظلم الحجاج وعبد الملك وأنه ما زال يؤثر مخالفتهم ومناهضتهم وأنه يرى ذلك ديناً لو وجد عليه أعواناً، ذكر لهم ما جرى بينه وبين أصحاب شبيب وأنهم لو تابعوه على رأيه لخلع عبد الملك والحجاج، واستشارهم فيما يفعل.
فقالوا له: أخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد. فقال له يزيد بن أبي زياد، مولى أبيه المغيرة بن شعبة: والله لا يخفى على الحجاج مما كان بينك وبينهم كلمة واحدة وليزادن على كل كلمة عشر أمثالها، ولو كنت في السحاب لالتمسك الحجاج حتى يهلكك، فالنجاء النجاء فوافقه أصحابه على ذلك، فسار عن المدائن نحو الجبال، فلقيه قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي بدير يزدجرد فأحسن إليه وأعطاه نفقةً وكسوةً، فصحبه ثم عاد عنه، ثم ذكر مطرف لأصحابه بالدسكرة ما عزم عليه ودعاهم إليه، وكان رأيه خلع عبد الملك والحجاج والدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوه. فبايعه البعض على ذلك ورجع عنه البعض.
وكان ممن رجع عنه سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف، فجاء إلى الحجاج وقاتل شبيباً مع أهل الشام.
وسار مطرف نحو حلوان، وكان بها سويد بن عبد الرحمن السعدي من قبل الحجاج، فأراد هو والأكراد منعه ليعذر عند الحجاج، فجازه مطرف بمواطأة منه وأوقع مطرف بالأكراد فقتل منهم وسار، فلما دنا من همذان وبها أخوه حمزة بن المغيرة تركها ذات اليسار وقصد ماه دينار وأرسل إلى أخيه حمزة يستمده بالمال والسلاح، فأرسل إليه سراً ما طلب. وسار مطرف حتى بلغ قم وقاشان وأصبهان وبعث عماله على تلك النواحي، وأتاه الناس، وكان ممن أتاه: سويد بن سرحان الثقفي، وبكير بن هارون النخعي، من الري في نحو مائة رجل.
وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان، غليه يعرفه حال مطرف ويستمده، فأمدة بالرجال بعد الرجال على دواب البريد، وكتب الحجاج إلى عدي من الري فاجتمع هو والبراء بن قبيصة، وكان عدي هو المير، فاجتمعوا في نحو ستة آلاف مقاتل، وكان حمزة بت المغيرة قد أرسل إلى الحجاج يعتذر، فأظهر قبول عذره وأراد عزله وخاف أن يمتنع عليه، فكتب إلى قيس بن سعد العجلي، وهو على شرطة حمزة بهمذان، بعهده على همذان ويأمره أن يقبض على حمزة بن المغيرة.
وكان بهمذان من عجل وربيعة جمع كثير، فسار قيس بن سعد إلى حمزة في جماعة من عشيرته فأقراه العهد بولاية همذان وكتاب الحجاج بالقبض عليه، وقال: سمعاً وطاعة. فقبض قيس على حمزة وجعله في السجن، وتولى قيس همذان، وتفرغ قلب الحجاج من هذه الناحية لقتال مطرف، وكان يخاف مكان حمزة بهمذان لئلا يمد أخاه بالمال والسلاح ولعله ينجده بالرجال.
فلما قبض عليه سكن قلبه وتفرغ باله، ولما اجتمع عدي بن زياد الإيادي والبراء بن قبصة سارا نحو مطرف فخندقا عليه، فلما دنوا منه اصطفوا للحرب واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب مطرف وقتل مطرف وجماعة كثيرة من أصحابه، قتله عمير بن هبيرة الفزاري، وحمل رأسه فتقدم بذلك عند بني أمية، وقاتل ابن هبيرة ذلك اليوم وأبلى بلاء حسناً وقتل يزيد بن أبي مولى المغيرة، وكان صاحب راية مطرف، وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان ناسكاً صالحاً.
وبعث عدي بن زياد إلى الحجاج أهل البلاء، فأكرمهم وأحسن إليهم، وآمن عدي بكير بن هارون وسويد بن سرحان وغيرهما، وطلب منه الأمان للحجاج بن حارثة حتى عزل عدي، ثم ظهر في إمارة خالد بن عتاب بن ورقاء.
وكان الحجاج يقول: إن مطرفاً ليس بولد للمغيرة بن شعبة إنما هو ولد مصقلة بن سبرة الشيباني، وكان مصقلة والمغيرة يدعيانه، فألحق بالمغيرة وجلد مصقلة الحد، فلما أظهر رأي الخوارج قال الحجاج ذلك لأن كثيراً من ربيعة كانوا من خوارج ولم يكن منهم أحد من قيس عيلان.

.ذكر الإختلاف بين الأزارقة:

قد ذكرنا مسير المهلب إلى الأزارقة ومحاربتهم إلى أن فارقه عتاب بن ورقاء الرياحي ورجع إلى الحجاج، وأقام المهلب بعد مسير عاب عنه يقاتل الخوارج، فقاتلهم على سابور نحو سنة قتالاً شديداً. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم أشد قتال، وكانت كرمان بيد الخوارج، وفارس بيد الهلب. فضاق على الخوارج مكانهم لا يأتيهم من فارس مادة، فخرجوا حتى أتوا كرمان، وتبعهم المهلب بالعساكر حتى نزل بجيرفت، وهي مدينة كرمان، فقاتلهم قتالاً شديداً. فلما صارت فارس كلها في يد المهلب أرسل الحجاج العمال عليها، فكتب إليه عبد الملك يأمره أن يترك بيد المهلب فسا ودار ابجرد وكورة إصطخر تكون له معونة على الحرب، فتركا له، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة ليحثه على قتال الجوارج ويأمره بالجد وأنه لا عذر له عنده فخرج المهلب بالعساكر فقاتل الخوارج من صلاة الغداة إلى الظهر، ثم انصرفوا والبراء على مكان عال يراهم، فجاء إلى المهلب فقال: ما رأيت كتيبة ولا فرساناً أصبر ولا أشد من الفرسان الذين يقاتلونك. ثم إن المهلب رجع العصر فقاتلهم كقتالهم أول مرة لا يصد كتيبة عن كتيبة، وخرجت كتيبة من كتائب الخوارج لكتيبة من أصحاب المهلب، فاشتد بينهم القتال إلى أن حجز بينهم الليل، فقالت إحداهما للأخرى: من أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بتي تميم. وقال هؤلاء: نحن من بني تميم. وانصرفوا عند المساء. فقال المهلب للبراء بن قبيصة: كيف رأيت قوما ما يعينك عليهم إلا الله جل ثناؤه؟ فأحسن المهلب إلى البراء وأمر له بعشرة آلاف درهم. وانصرف البراء إلى الحجاج وعرفه عذر المهلب.
ثم إن المهلب قاتلهم ثمانية عشر شهراً لا يقدر منهم على شيء. ثم إن عاملا لقطري على ناحية كرمان يدعى المقعطر الضبي قتل رجلاً منهم، فوثبت الخوارج إلى قطري وطلبوا منه أن يقيدهم من المقعطر، فلم بفعل وقال: إنه تأول فأخطأ التأويل، ما رأى أن تقتلوه وهو من ذوي السابقة فيكم، فوقع بينهم الإختلاف.
وقيل: كان سبب اختلافهم أن رجلاً كان في عسكرهم يعمل النصول المسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب، فشكا أصحابه منها، فقال: أكفيكموه، فوجه رجلاً من أصحابه ومعه كتاب وأمره أن يلقيه في عسكر قطري ولا يراه أحد، ففعل ذلك، ووقع الكتاب إلى قطري، فرأى فيه؛ أما بعد فإن نصالك قد وصلت وقد أنفذت إليك ألف درهم. فأحضر الصانع فسأله فجحد، فقتله قطري، فأنكر عليه عبد ربه الكبير قتله واختلفوا.
ثم وضع المهلب رجلاً نصرانياً وأمره أن يقصد قطرياً ويسجد له، ففعل ذلك، فقال له الخوارج: إن هذا قد اتخذك إلهاً. ووثب بعضهم إلى النصراني فقتله، فزاد اختلافهم وفارق بعضهم قطرياً، ثم ولوا عبد ربه الكبير وخلعوا قطرياً وبقي مع قطري منهم نحو من ربعهم أو خمسهم، واقتتلوا فيما بينهم نحوا من شهر.
وكتب المهلب إلى الحجاج بذلك. فكتب إليه الحجاج يأمره أن يقاتلهم على حال اختلافهم قبل أن يجتمعوا، فكتب إليه المهلب: إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضاً فأناهضهم حينئذٍ وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكةً إن شاء الله تعالى، والسلام. فسكت عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهراً لا يحركهم، ثم إن قطرياً خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع الباقون عبد ربه الكبير.

.ذكر مقتل عبد ربه الكبير:

لما سار قطري إلى طبرستان وأقام عبد ربه الكبير بكرمان نهض إليهم المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً وحصرهم بجيرفت وكرر قتالهم وهو لا ينال منهم حاجته. ثم إن الخوارج طال عليهم الحصار فخرجوا من جيرفت بأموالهم وحرمهم فقاتلهم المهلب قتالاً شديداً حتى عقرت الخيل وتكسر السلاح وقتل الفرسان فتركهم، فساروا، ودخل المهلب جيرفت، ثم سار يتبعهم إلى أن لحقهم على أربعة فراسخ من جيرفت فقاتلهم من بكرة إلى نصف النهار وكف عنهم، وأقام عليهم.
ثم إن عبد ربه جمع أصحابه وقال: يا معشر المهاجرين! إن قطرياً ومن معه هربوا طلب البقاء ولا سبيل إليه، فالقوا عدوكم وهبوا أنفسكم لله. ثم عاد للقتال، فاقتتلوا قتالاً شديداً أنساهم ما قبله، فبايع جماعة من أصحاب المهلب على الموت، ثم ترجلت الخوارج وعقروا دوابهم واشتد القتال وعظم الخطب حتى قال المهلب: ما مربي مثل هذا- ثم إن لله تعالى أنزل نصره على المهلب وأصحابه وهزم الخوارج وكثر القتلى فيهم، وكان فيمن قتل: عبد ربه الكبير، وكان عدد القتلى أربعة آلاف قتيل، ولم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا لأنهم كانوا يسبون نساء المسلمين. وقال الطفيل بن عامر بن واثلة يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه:
لقد مس منا عبد رب وجنده ** عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم

سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ** بكرمان عن مثوىً من الأرض ناعم

وما قطري الكفر إلا نعامة ** طريد يدوي ليله غير نائم

إذا فر منا هارباً كان وجهه ** طريقاً سوى قصد الهدى والمعالم

فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ** به الفلك في لجٍ من البحر دائم

وهي أكثر من هذا تركناها لشهرتها.
وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء وزادهم، وسير المهلب إلى الحجاج مبشراً، فلما دخل عليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج وذكر حروبهم وأخبره عن بني المهلب فقال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً، وجوادهم وسخيهم قبيصة، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدركه، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة قال: فكيف خلفت الناس؟ قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: كيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة السرح نهاراً، فإن أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. فاستحسن قوله وكتب إلى المهلب يشكره ويأمره أن يولي كرمان من يثق به ويجعل فيها من يحميها ويقدم إليه. فاستعمل على كرمان يزيد ابنه، وسار إلى الحجاج، فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب. ثم قال له: أنت كما قال لقيط بن يعمر الإيادي في صفة أمراء الجيوش:
وقلدوا أمركم لله دركم ** رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ** ولا إذا عض مكروه به خشعا

مسهد النوم تعنيه ثغوركم ** يروم منها إلى الأعداء مطلعا

ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره ** يكون متبعاً طوراً ومتسعا

وليس يشغله مال يثمره ** عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا

حتى استمرت على شزرٍ مريرته ** مستحكم السن لا قحماً ولا ضرعا

وهي قصيدة طويلة هذا هو الأجود منها.

.ذكر قتل قطري بن الفجاءة وعبيدة بن هلال:

قيل: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة. وكان السبب في ذلك أن أمرهم لما تشتت بالاختلاف الذي ذكرنا، وسار قطري نحو طبرستان، وبلغ خبره الحجاج، سير إليه سفيان بن الأبرد في جيش عظيم. وسار سفيان واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث في جيش لأهل الكوفة بطبرستان، فأقبلوا في طلب قطري فلحقوه في شعب طبرستان فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه ووقع عن دابته فتدهدى إلى أسفل الشعب، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني الماء. فقال العلج: أعطني شيئاً. فقال: ما معي إلا سلاحي وأنا أعطيكه إذا أتيتني بالماء. فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجراً من فوقه فأصاب وركه فأوهنه، فصاح بالناس، فاقبلوا نحوه، ولم يعرفه العلج، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لكمال سلاحه وحسن هيئته، فجاء إليه نفر من أهل لكوفة فقتلوه، منهم: سورة بن الحر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذان مولاهم، وعمر بن أبي الصلت، وكل هؤلاء ادعى قتله.
فجاء إليهم أبو الجهم بن كنانة فقال لهم: ادفعوا رأسه إلي حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه، فأقبل به إلى إسحاق بن محمد وهو على الكوفة فأرسله معه إلى سفيان، فسير سفيان الرأس مع أبي الجهم إلى الحجاج، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، فجعل عطاءه في ألفين.
ثم إن سفيان سار إليهم فأحاط بهم، ثم أمر مناديه فنادى: من قتل صاحبه وجاء إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال في ذلك:
لعمري لقد قام الأصم بخبةٍ ** لذي الشك منها في الصدور غليل

لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي ** وفارقت ديني أنني لجهول

إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ** تساوك هزلى مخهن قليل

تعاورها القذاف من كل جانبٍ ** بقومس حتى صعبهن ذلول

فإن يك أفناها الحصار فربما ** تشحط فيما بينهن قتيل

وقد كن مما إن يقدن على الوجى ** لهن بأبواب القباب صهيل

وحصرهم سفيان حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا إليه فقاتلوه فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج. ثم دخل سفيان دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم.
وقال بعض العملاء: وانقرضت الأزارقة بعد مقتل قطري وعبيدة، إنما كانوا دفعة متصلة أهل عسكر واحد، وأول رؤسائهم نافع بن الأزرق، وآخرهم قطري وعبيدة، واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة، إلا أني أشك في صبيح المازني التميمي مولى سوار بن الأشعر الخارج أيام هشام، قيل: هو من الأزارقة أو الصفرية، إلا أنه لم تطل أيامه بل قتل عقيب خروجه.

.ذكر قتل بكير بن وشاح:

في هذه السنة قتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بكير بن وشاح.
وكان سبب ذلك أن أمية بن عبد الله، وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، أمر بكيراً بالتجهيز لغزو ما وراء النهر، وقد كان قبل ذلك ولاه طخارستان، فتجهز له، فوشى به بحير بن ورقاء إلى أمية، فمنعه عنها، فلما أمره بغزو ما وراء النهر تجهز وأنفق نفقةً كثيرة وادان فيها، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر خلع الخليفة. فأرسل إليه أمية: أن أقم لعلي أغزو فتكون معي. فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عقاب ذو القوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فأخذه غرماؤه فحبس حتى أدى عنه بكير.
ثم إن أمية تجهز للغزو إلى بخارى ثم يعود منها إلى موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ، وتجهيز الناس معه وفيهم بكير، وساروا، فلما بلغوا النهر وأرادوا قطعه قال أمية لبكير: إني قد استخلفت ابني على خراسان وأخاف أنه لا يضبطها لأنه غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فإني قد وليتكها، فقم بأمر ابني.
فانتخب بكير فرساناً كان عرفهم ووثق بهم ورجع، ومضى أمية إلى بخارى للغزاة. فقال عقاب ذو اللقوة لبكير: إنا طلبنا أميراً من قريش فجائنا أمير يلعب بنا ويحولنا من سجن إلى سجن، وإني أرى آت تحرق هذه السفن ونمضي إلى مرو ونخلع أمية ونقيم بمرو ونأكلها إلى يوم ما.
ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على هذا. قال بكير: أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي. قال: إن هلك هؤلاء فأنا آتيك من أهل مرو بما شئت. قال: يهلك المسلمون. قال: إنما يكفيك أن ينادي منادٍ: من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفاً أسمع من هؤلاء وأطوع. قال: فيهلك أمية ومن معه. قال: ولم يهلكون ولهم عدد وعدة ونجدة وسلاح ظاهر ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فحرق بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه وخلع أمية.
وبلغ أمية الخبر فصالح أهل بخارى على فدية قليلة ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وذكر للناس إحسانه إلى بكير مرة بعد أخرى وأنه كافأه بالعصيان، وسار إلى مرو، وأتاه موسى بن عبد الله بن خازم، وأرسل أمية شماس بن دثار في ثمانمائة، فسار إليه بكير وبيته فهزمه وأمر أصحابه أن لا يقتلوا منهم أحداً، فكانوا يأخذون سلاحهم ويطلقونهم، وقدم أمية فتلقاه شماس، فقدم أمية ثابت بن قطبة، فلقيه بكير فأسر ثابتاً وفرق جمعه ثم أطلقه ليدٍ كانت لثابت عنده.
وأقبل أمية وقاتله بكير فانكشف يوماً أصحابه، فحماهم بكير، ثم التقوا يوماً آخر فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم التقوا يوماً آخر فضرب بكير ثابت بن قطبة على رأسه، فحمل حريث بن قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير وانكشف أصحابه، واتبع حريث بكيراً حتى بلغ القنطرة، وناداه: إلى أين يا بكير؟ فرجع، فضربه حريث على رأسه فقطع المغفر وعض السيف رأسه فصرع، واحتمله أصحابه فأدخلوه المدينة، وكانوا يقاتلونهم.
فكان أصحاب بكير يغدون في الثياب المصبغة من أحمر وأصفر فيجلسون يتحدثون وينادي مناديهم: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد.
وخاف بكير إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح وأحب ذلك أيضاً أصحاب أمية، فاصطلحوا على أن يقضي أمية عنه أربعمائة ألف ويصل أصحابه ويوليه أي كور خراسان شاء ولا يسمع قول بحير فيه وإن رابه ريب فهو آمن أربعين يوماً.
ودخل أمية مدينة مرو ووفى لبكير وعاد إلى ما كان من إكرامه وأعطى أمية عقاباً عشرين ألفاً.
وقد قيل: إن بكيراً لم يصحب أمية إلى النهر، كان أمية قد استخلفه على مرو، فلما سار أمية وعبر النهر خلعه، فجرى الأمر بينهما على ما ذكرناه.
وكان أمية سهلاً ليناً سخياً، وكان مع ذلك ثقيلاً على أهل خراسان، وكان فيه زهو شديد وكان يقول: ما تكفيني خراسان لمطبخي.
وعزل أمية بحيراً عن شرطته وولاها عطاء بن أبي السائب. وطالب أمية الناس بالخراج واشتد عليهم، وكان بكير يوماً في المسجد وعنده الناس فذكروا شدة أمية وذموه، وبحير وضرار بن حصين وعبد الله بن جارية بن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية، فكذبه، فادعى شهادة هؤلاء، فشهد مزاحم بن أبي المجشر السلمي أنه كان يمزح فتركه أمية.
ثم إن بحيراً أتى أمية وقال له: والله إن بكيراً قد دعاني إلى خلعك وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان، فلم يصدقه أمية، فاستشهد جماعةً ذكر بكير أنهم أعداؤه، فقبض أمية على بكير وعلى بدل وشمردل ابني أخيه، ثم أمر أمية بعض رؤساء من معه بقتل بكير فامتنعوا، فأمر بحيراً بقتله فقتله، وقتل أمية ابني أخي بكير.